هل طفلتي الكفيفة مصابة بالتوحد؟ تجربة إحدى الأمهات

Ivan crying

عرض كل المقالات بالعربية

ترجمة “مركز قطر الاجتماعي والثقافي للمكفوفين”

ماري ماكدوناج

(ملاحظة المحرر): عندما كنا نبحث طوال تلك السنين عن التشخيص الصحيح لولدنا إيفان، ذكر لنا العديد من الأطباء والمعالجين التوحد كمرض محتمل.

كان من السهل أن نقبل ذلك التشخيص، ولكنه كان ليصل بنا على المدى البعيد إلى علاجات غير ناجحة. من الصعب التفريق بين اضطراب أطياف التوحد وبين العمى وغيرهما الاضطرابات العصبية الأخرى، ولكن كوالدين، يتعين علينا الاستمرار في البحث حتى نتأكد أننا حصلنا على الجواب الصحيح. ونعم، أحيانا التوحد هو بالفعل الإجابة الصحيحة.

إن تجربة ماري مع ابنتها إليزابيث مختلفة عن تجربتي مع إيفان، ولكنها تقريبا نفس السيناريو. إذا كنتم أيضا تعانون من هذه المسألة، فقد تساعدكم هذه المقالة في إلقاء الضوء عليها من منظور مختلف.

استطيع فقط أن اكتب عن تجربتي مع طفلتي ومن ذلك المنظور فقط. أود في هذه المقالة معالجة العلاقة بين العمى والتوحد، ولكن لا أرغب في إثارة غضب أحد منكم ولا أن اتحدث عن تجارب غيري من الآباء والأمهات أو عن ما يعانونه يوميا.

لا اكتب لكم كطبيبة قديرة (على الرغم من أنني بالفعل طبيبة، ومتقاعدة حاليا)، ولكنني أكتب كأم، وأرغب في مشاركتكم حكايتي.

ولدت ابنتي اليزابيث وهي مصابة بمرض الألبينية OCA1a (المهق/ البهق من النوع الأول وهو مرض متعلّق بإنزيم التيروسينيز المسؤول عن انتاج الميلانين). يكون للمصاب بهذا المرض شعر أبيض جميل، وقدرة بصرية تتراوح ما بين طبيعية إلى كفيف تماما.

عندما ولدت ابنتي، تصرف كطفلة كفيفة لأنها كانت كذلك بالفعل. يقال عن الأشخاص المصابين بالألبينية ان بصرهم لا يسوء أبدا عن اليوم الذي ولدوا فيه، ولم تكن هي استثناء.

كان لدى طاقم المستشفى أمل كبير ان يتحسن بصرها، وربما بصورة كبيرة جدا، ولكن الواقع كان يشير إلى أنها كفيفة. كانت تفعل كل الأشياء التي قد يفعلها طفل كفيف، مثل:

  • تتفاجأ عندما يلمسها أحد أو يكلمها من مسافة قريبة.
  • كانت طفلة هادئة جدا- بدا وكأنها تستمع للأصوات من حولها.
  • كانت لديها استجابات خوف قوية من أنواع معينة من الأقمشة، كالدمى المحشوة بالقطن أو القطع الجلدية، وهذا أمر اتذكره بوضوح.
  • لم تكن ترغب ولا تحاول أن تجلس بمفردها بدون مساعدة، ولماذا عساها أن تفعل ذلك وبصرها لم يتحسن وربما تعرض نفسها أكثر للأذى؟

تركنا لها حرية التصرف لبعض الوقت، وسمحنا لها بالعيش بدون ألعاب ودمى محشوة بالقطن وبدون الجلوس. ثم قلنا “كفى!”. كل طفل يحتاج لمواجهة التحديات، وقد كان في جعبتنا الكثير من التحديات لها.

اشترينا لها لعبة يمكنها أن تغير مركز الثقل لدى طفلتي عندما تتحرك، شيء مشابه لكرسي البيليبو، وأصرينا على أن نجلسها فيه حتى تتمكن من مشاركتنا جلساتنا، واستمررنا في ذلك بعدة طرق، ومجرد تذكرها الآن يجعلني أشعر بالتعب!

تحسن بصرها قليلا، ولم يكن لنا أي فضل في ذلك. حصل ذلك مع الوقت ومع نموها. ولكن ما زالت متأخرة. لم تكن تحبو مثلا، ولماذا عساها أن تفعل ذلك؟ لم تكن لتعثر على أي شيء إلا بالصدفة أو عندما تتبع أحدهم، ولذلك لم تتجشم عناء الحبو؟

ثم أدركت طفلتي أن الناس كانوا يجلسون على الأرض، وحتى تتمكن من الوصول إليهم يتعين عليها الوقوف- ولذلك تعلمت أن تقف. وهذا كل ما قامت به. الحد الأدنى: الوقوف! (هذه هي ابنتي!)

Little walking feet

تصوير: The Busy Brain

عندما بلغت من العمر سنتين- عندما بلغ قلقي مداه- حينها فقط بدأت تمشي!!! نعم، هكذا فقط نهضت ومشت خمس خطوات على الأرض- لم يكن امرا مهما لها كما يبدو.

وبعدها بدأت بالاهتزاز والتأرجح- على أي سطح، وفي أي غرفة.

أما عن التسلق- ما زال خوفي على سلامتها يثير نوعا من “الصد اللطيف” من جانبها! ففي الحضانة كانت معروفة بـ”الفتاة المتصدية للمخاطر!”

ولكنها ظلت لا تتكلم، ولا تضحك، ولكن كانت تبتسم بين الفينة والأخرى- وحين كانت تبتسم، بدت كالشمس في سطوعها!

التحقت ابنتي بالحضانة عندما بلغت شهرها الثلاثين، وكانت ما تزال لا تتكلم إلا قليلا جدا. عرض علينا طبيب أعصاب الأطفال إجراء فحص التصوير بالرنين المغناطيسي لأنه حتى ذلك الوقت، كان هو وحتى طبيبها للعيون يشكان بإصابتها بما يسمى “تشخيص إضافي” ولكننا رفضنا إجراء هذا الفحص بسبب المخاطر التي قد يسببها التخدير العام. إذا كانت ابنتنا فعلا مصابة بإعاقات عصبية أخرى، فسنعلم بها قريبا.

ولكن الانتظار لم يكن سهلا.

في هذه اللحظة من القصة، انا متأكدة أنكم تعلمون ما الأمر الذي كان يقلقنا ويشغل بالنا. كيف يمكنك معرفة الفرق بين طبع العبث بالعين وخدشها، الأمر الملازم للطفل الكفيف الذي يستحث عصبه البصري، ذلك السلوك بسبب الطبيعة التي تُلحق الأذى بنفسها، والتي هي في واقع الأمر طيف من أطياف التوحد؟

بدأت إليزابيث بالكلام عندما كان عمرها سنتين وتسع شهور. كان الأمر مفاجئا، وبدأت مباشرة بصياغة وتركيب جمل كاملة!

لطالما كانت طفلة ذات رغبات واحتياجات محددة للغاية، ولكنها كبرت لتصبح طفلة تستطيع القيام بأشياء محددة بطريقة واحدة لا غير. فمثلا، عندما ابدأ بقراءة كتاب لها، فيتعين علي قول الكلمات نفسها التي قلتها في المرة الأولى التي قرأت لها نفس الكتاب. لم تكن لتطيق أي تغيير في أحداث القصة، وكانت تتابع بيدها الصغيرة أسطر القصة (كل كتبها كانت قصصا يمكن لمسها باليد) بالترتيب المحدد الذي قررته هي.

كان لديها مجموعة من الشروط لكل الأنشطة اليومية التي تقوم بها. وكان روتينها قاسيا. ظلت اليزابيث طفلة هادئة وذات طبيعة سمحة، ولكنها قد تصبح حادة المزاج إذا تعرض روتينها للتغيير.

وعلى كل حال، يجب ألا نخلط بين روتينها وبينها ترتيبها “التي تراه هي” للأشياء. يجب ترتيب الكتب في وضعية مستقيمة، مستقيمة للغاية. يجب صف الكتب في غرفة الجلوس بصورة أفقية متماثلة للغاية. وقبل فترة طويلة من تمكنها من التعبير لغويا عن نفسها، كانت قد اكتسبت فهما وإدراكا متقدمين للأرقام والأشكال والزوايا.

كما أنها تصرفت كما لو أن أشخاصا معينين لم يكونوا متواجدين حولها (وللإنصاف، ما زالت تتصرف على هذا النحو. ليس أنها تقصد كره أحد ما أو الامتعاض منه، إلا أنها لا تبذل أي جهد إلا لـ”رؤية” الأشخاص الذين ترغب برؤيتهم فقط. غني عن القول أن ذوقها في اختيار الناس كان، أقل ما يمكن أن يقال في وصفه، انتقائيا).

ثم جاءت الايكولاليا (أي تكرار الكلام) لتقصم ظهورنا- أنا لا أحاول هنا تهويل الأمر، وإذا كنت أنت قد عايشت هذا الوضع، فأنت ستفهم بالتأكيد كيف كنا نشعر.

هل فهمت مغزى ما سبق من كلامي؟

كل هذه السلوكيات الطبيعية والتي يمكن عزوها لفقد البصر، يمكن أيضا بنفس الدرجة النظر إليها على أنها الوقوف على أعتاب أحد أطياف اضطراب التوحد.

وقد عايشت كل هذه الأعراض من قبل- مع المرضى الذين عالجتهم في المستشفيات المختلفة، المرضى المصابون باضطرابات التوحد.

يجب أن تنال طبيبة عائلتنا جائزة جزاء صبرها واهتمامها الكبير ومراعاتها الخاصة الصادقة لابنتنا، وأيضا للطفها البالغ معنا. فكلما ذهبنا إليها بين الوقت والآخر مع قطعة أخرى لحل أحجية سلوك ابنتنا المحير، كانت ترفع عن عقولنا مرارا وتكرارا عبء التفكير وتريحنا، حتى لو مؤقتا.

في كل مرة ذهبنا إليها، كانت تسألنا ما إذا كانت ابنتنا تنفر أو تتوتر من اتصالنا الجسدي بها. في كل مرة أجبناها أنها تجفل بسهولة، وإن بدت ترغب وتحب التواصل معها جسديا- مع أي أحد!

لو اسأنا تفسير ضعف ابنتنا التي كانت تشعر به عندما يلمسها أحد- فجأة من وجهة نظرها- لكان من السهل علينا أن ندرك أن هذا التواصل الانساني لم يكن سارا بالنسبة لها. وبدلا من أن نقوم بتدريبها على قول أشياء مثل: “هذا ممتع وأنا أرغب في الاحتضان” حتى يتسنى لها توقع قيامنا باحتضانها، كنا نتراجع عن لمسها لأنه “يبدو” امرا مزعجا لها، وهذا بالتالي عنى أنها لم تتلقى التدريب على الاستجابة بشكل مناسب للتواصل الإنساني.

شاهدناها دوما وهي تهتز وتتأرجح باستمرار- وذات مرة أدركنا أنها كانت تتفحص كل بوصة من الأرضية بحثا عن صوت صرير اهتزاز كرسيها!!! إنها ترى منزلنا بطريقة مختلفة تماما عن الطريقة التي نراه نحن فيها — وهذا أمر بديهي!

لقد كنا دوما محظوظين بكفاءة وبراعة المختصين الذين أحاطوا بابنتنا وساعدونا لكي نساعدها. لقد كنا محظوظين بمديرة الحضانة التي وفرت مكان خاصا بذوي الإعاقة لطفلتنا، والتي قالت هذه الكلمات المريحة، الكلمات السحرية العذبة: “هذه الطفلة لديها عملية تعليم ذاتية مجهولة، ويتعين علينا تغيير الطريقة التي نقّيم فيها تحقيقنا لأهدافنا التعليمية بحيث ننجح في استيعاب ذلك وتحقيقه لها.” وبعبارة أخرى، فإن اليزابيث تستجيب للعالم من حولها كطفلة كفيفة وكفرد، ويجب أن نضع ذلك في اعتبارنا عندما نقيم أدائها.

كان ذلك هو الخيط الذي نسجناه حول مخاوفنا، حتى خنقنا تلك المخاوف في آخر المطاف. وعندما أتأمل في الماضي، بدا ذلك واضحا جدا- كيف لم نتمكن من إدراك ذلك، لأن خبرتها في العالم كانت مختلفة جدا بسبب عدم قدرتها على الإبصار، وعليه فإنه من المحتم أن يسلك تعليمها مسارا مختلفا لكي تصل إلى المكان الذي نرغب في إيصالها إليه؟

بعض الأطفال، بالصدفة المحضة، خُلقوا مكفوفين أو ضعاف بصر ومصابون أيضا باضطرابات التوحد. أنا لا استخف بهذا الأمر، ولكني أود التأكيد على حقيقة أن الطبيعة قد تمزج بين أمراض مختلفة، فمثلا على سبيل المثال، يولد بعض الأطفال وهم مصابون بمتلازمة داون وايضا بمرض الألبينية في نفس الوقت. ليست حالات شائعة، ولكن حدثت أكثر من مرة بالفعل.

هذه الأمور غير الشائعة تحدث كل يوم، وكان من الممكن أن تكون لتجربتي مع ابنتي نتائج مختلفة تماما. ومن الممكن أيضا أنه لو لم أحظى بكوكبة من الكفاءات المهنية حولي، لكنت صدقت ما كنت أراه بعيني وأظنه صوابا، ووضعت على أساسه استراتيجيتي لتربية ابنتي، والتي كانت ستعود على ابنتي بضرر كبير على المدى البعيد.

Kids getting on the bus

تصوير: Lori

التحقت اليزابيث بالمدرسة وهي في عامها الأول في مدرسة نظامية، وهي تحتاج لعناية ومعدات خاصة للتغلب على آثار مشاكلها البصرية العديدة.

كما أود أيضا التأكيد على أنها تحتاج فعلا إلى دعم اولئك العاملين في تلك المدرسة على وجه التحديد، والذين اختاروا أن ينتهجوا طريقة التعليم الذاتي والانفتاح العقلي تجاه كل ما يعلمونه ابنتي الصغيرة واعطائها أفضل بداية تعليمية. شكرنا لا يمكن وصفه لهؤلاء الناس- لقد انتهجوا هذه الطريقة بسبب ما يملكونه من خبرات وعلم وشخصيات مميزة، تتوق اليزابيث للنهل منها.

ولكن ربما ارتكبت خطأ لا يمكن اصلاحه من غير أن أقصد ذلك. فكل ما اكتسبته من خبرة وما قمت به من أبحاث أرشداني إلى أنه من الإجباري علينا نحن الآباء والأمهات أن نتأمل ونتدبر في قدرات ابنائنا قبل أن نوسمهم بقالب معين للأبد.

مصادر:

.Read this article in English